فصل: تفسير الآيات (55- 57):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الدر المنثور في التفسير بالمأثور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (50- 51):

{وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)}
أخرج ابن جرير عن وهب. أن عيسى كان على شريعة موسى عليهما السلام، وكان يسبت، ويستقبل بيت المقدس، وقال لبني إسرائيل: أني لم أدعكم إلى خلاف حرف مما في التوراة الا {ولأُحلّ لكم بعض الذي حرم عليكم} وأضع عنكم من الآصار.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الربيع في قوله: {ولأحلّ لكم بعض الذي حرم عليكم} قال: كان الذي جاء به عيسى ألين مما جاء به موسى، وكان حرم عليهم فيما جاء به موسى لحوم الإبل، والثروب، فأحلها لهم على لسان عيسى، وحرمت عليهم الشحوم، فأحلت لهم فيما جاء به عيسى، وفي أشياء من السمك، وفي أشياء من الطير ما لا صيصية له، وفي أشياء أخر رحمها عليهم وشدد عليهم فيها. فجاءهم عيسى بالتخفيف منه في الإنجيل.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة. مثله.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {وجئتكم بآية من ربكم} قال: ما بين لهم عيسى من الأشياء كلها وما أعطاه ربه.

.تفسير الآية رقم (52):

{فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)}
أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله: {فلما أحس عيسى منهم الكفر} قال: كفروا وأرادوا قتله. فذلك حين استنصر قومه. فذلك حين يقول {فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة} [ الصف: 14].
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد {من أنصاري إلى الله} قال: من يتبعني إلى الله.
وأخرج ابن جرير عن السدي {من أنصاري إلى الله} يقول: مع الله.
وأما قوله تعالى: {قال الحواريون} الآية.
أخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: إنما سموا الحواريين لبياض ثيابهم. كانوا صيادين.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن أبي أرطاة قال: {الحواريون} الغسالون الذين يحورون الثياب: يغسلونها.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال: {الحواريون} الغسالون وهو بالنبطية هواري، وبالعربية المحور.
وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك قال: {الحواريون} قصارون مر بهم عيسى فآمنوا به واتبعوه.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال: {الحواريون} هم الذين تصلح لهم الخلافة.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الضحاك قال: {الحواريون} أصفياء الأنبياء.
وأخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن قتادة قال: (الحواري) الوزير.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان بن عيينة قال: (الحواري) الناصر.
وأخرج البخاري والترمذي وابن المنذر عن جابر بن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن لكل نبي حوارياً وإن حواريِّ الزبير.
وأخرج ابن أبي داود في المصاحف عن أسيد بن يزيد قال: {واشهد بأنا مسلمون} في مصحف عثمان ثلاثة أحرف.

.تفسير الآيات (53- 54):

{رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)}
أخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {فاكتبنا مع الشاهدين} قال: مع محمد صلى الله عليه وسلم وأمته. إنهم شهدوا له أنه قد بلغ، وشهدوا للرسل أنهم قد بلغوا.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس {فاكتبنا مع الشاهدين} قال: مع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قضى صلاته: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك فإن السائلين عليك حقاً أيما عبد أو أمة من أهل البر والبحر تقبلت دعوتهم، واستجبت دعاءهم، أن تشركنا في صالح ما يدعونك به، وإن تعافينا وإياهم، وأن تقبل منا ومنهم، وأن تجاوز عنا وعنهم، بأنا {آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين} وكان يقول: «لا يتكلم بهذا أحد من خلقه إلا أشركه الله في دعوة أهل بَرِّهم وأهل بحرهم فعمتهم وهو مكانه».
وأخرج ابن جرير عن السدي قال: إن بني إسرائيل حصروا عيسى وتسعة عشر رجلاً من الحواريين في بيت فقال عيسى لأصحابه: من يأخذ صورتي فيقتل وله الجنة؟ فأخذها رجل منهم وصعد بعيسى إلى السماء. فذلك قوله: {ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين}.

.تفسير الآيات (55- 57):

{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)}
أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس في قوله: {إني متوفيك} يقول: إني مميتك.
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن قال: {متوفيك} من الأرض.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من وجه آخر عن الحسن في قوله: {إني متوفيك} يعني وفاة المنام رفعه الله في منامه، قال الحسن: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهود: «إن عيسى لم يمت وأنه راجع إليكم قبل يوم القيامة».
وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة {إني متوفيك ورافعك إليّ} قال: هذا من المقدم والمؤخر: أي رافعك إليّ ومتوفيك.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مطر الوراق في الآية قال: {متوفيك} من الدنيا وليس بوفاة موت.
وأخرج ابن جرير بسند صحيح عن كعب قال: لما رأى عيسى قلة من اتبعه وكثرة من كذبه، شكا ذلك إلى الله. فأوحى الله إليه {إني متوفيك ورافعك إليَّ} وإني سأبعثك على الأعور الدجال فتقتله، ثم تعيش بعد ذلك أربعاً وعشرين سنة، ثم أميتك ميتة الحي. قال كعب: وذلك تصديق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: «كيف تهلك أمة أنا في أوّلها وعيسى في آخرها؟».
وأخرج اسحق بن بشر وابن عساكر عن الحسن قال: لم يكن نبي كانت العجائب في زمانه أكثر من عيسى إلى أن رفعه الله، وكان من سبب رفعه أن ملكاً جباراً يقال له داود بن نوذا، وكان ملك بني إسرائيل هو الذي بعث في طلبه ليقتله، وكان الله أنزل عليه الإنجيل وهو ابن ثلاث عشرة سنة، ورفع وهو ابن أربع وثلاثين سنة من ميلاده. فأوحى الله إليه {إني متوفيك ورافعك إليَّ ومطهرك من الذين كفروا} يعني ومخلصك من اليهود فلا يصلون إلى قتلك.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من وجه آخر عن الحسن في الآية قال: رفعه الله إليه فهو عنده في السماء.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن وهب قال: توفى الله عيسى ابن مريم ثلاث ساعات من النهار رفعه إليه.
وأخرج ابن عساكر عن وهب قال: أماته الله ثلاثة أيام بعثه ورفعه.
وأخرج الحاكم عن وهب أن الله توفى عيسى سبع ساعات ثم أحياه، وإن مريم حملت به ولها ثلاث عشرة سنة، وأنه رفع ابن ثلاث وثلاثين، وأن أمه بقيت بعد رفعه ست سنين.
وأخرج ابن اسحق بن بشر وابن عساكر من طريق جوهر عن الضحاك عن ابن عباس في قوله: {إني متوفيك ورافعك} يعني رافعك ثم متوفيك في آخر الزمان.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جرير في الآية قال: رفعه إياه توفيته.
وأخرج الحاكم عن الحريث بن مخشبي أن علياً قتل صبيحة إحدى وعشرين من رمضان، فسمعت الحسن بن علي وهو يقول: قتل ليلة أنزل القرآن، وليلة أُسْرِيَ بعيسى، وليلة قُبِضَ موسى.
وأخرج ابن سعد وأحمد في الزهد والحاكم عن سعيد بن المسيب قال: رُفع عيسى ابن ثلاث وثلاثينَ سنة، ومات لها معاذ.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: {ومطهرك من الذين كفروا} قال: طهره من اليهود، والنصارى، والمجوس، ومن كفار قومه.
وأخرج ابن جرير عن محمد بن جعفر بن الزبير {ومطهرك من الذين كفروا} قال: إذ هموا منك بما هموا.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله: {وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة} قال: أهل الإسلام الذين اتبعوه على فطرته وملته وسنته، فلا يزالون ظاهرين على ناوأهم إلى يوم القيامة.
وأخرج ابن جرير عن ابن جريج في الآية قال: ناصر من اتبعك على الإسلام على الذين كفروا إلى يوم القيامة.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن عساكر عن النعمان بن بشير «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين لا يبالون من خالفهم حتى يأتي أمر الله» قال النعمان: فمن قال إني أقول على رسول الله ما لم يقل فإن تصديق ذلك في كتاب الله تعالى. قال الله تعالى {وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة...} الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن {وجاعل الذين اتبعوك} قال: هم المسلمون ونحن منهم، ونحن فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة.
وأخرج ابن عساكر عن معاوية بن أبي سفيان قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنها لن تبرح عصابة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على الناس حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك. ثم قرأ بهذه الآية {يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليَّ ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة}».
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في الآية قال: النصارى فوق اليهود إلى يوم القيامة، فليس بلد فيه أحد من النصارى إلا وهو فوق يهود في شرق ولا غرب في البلد كلها مستذلون.
وأخرج ابن المنذر عن الحسن في الآية قال: عيسى مرفوع عند الله ثم ينزل قبل يوم القيامة، فمن صدق عيسى ومحمداً صلى الله عليه وسلم وكان على دينهما لم يزالوا ظاهرين على من فارقهم إلى يوم القيامة.
وأخرج ابن جرير من طريق علي عن ابن عباس في قوله: {وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات} يقول: أدوا فرائضي {فيوفيهم أجورهم} يقول: فيعطيهم جزاء أعمالهم الصالحة كاملاً لا يبخسون منه شيئاَ ولا ينقصونه.

.تفسير الآية رقم (58):

{ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآَيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)}
أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: «أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم راهبا نجران فقال أحداهما: من أبو عيس؟ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعجل حتى يأمره ربه. فنزل عليه {ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم} إلى قوله: {من الممترين}».
وأخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله: {والذكر الحكيم} قال: القرآن.
وأخرج ابن أبي حاتم عن علي «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ستكون فتن قلت: فما المخرج منها؟ قال: كتاب الله، هو الذكر الحكيم، والصراط المستقيم».

.تفسير الآيات (59- 63):

{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)}
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس «أن رهطاً من أهل نجران قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان فيهم السيد والعاقب فقالوا له: ما شأنك تذكر صاحبنا؟ قال: من هو؟ قالوا: عيسى تزعم أنه عبدالله! قال: أجل إنه عبدالله. قالوا: فهل رأيت مثل عيسى أو أنبئت به؟ ثم خرجوا من عنده فجاءه جبريل فقال: قل لهم إذا أتوك {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم} إلى آخر الآية».
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال: «ذكر لنا أن سيدي أهل نجران وأسقفيهم السيد والعاقب لقيا نبي الله فسألاه عن عيسى فقالا: كل أدمي له أب فما شأن عيسى لا أب له؟ فأنزل الله فيه هذه الآية {إن مثل عيسى عند الله...} الآية».
وأخرج ابن جرير عن السدي قال: لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع به أهل نجران أتاه منهم أربعة نفر من خيارهم، منهم السيد، والعاقب، وماسرجس، ومار بحر، فسألوه ما تقول في عيسى؟ «قال: هو عبدالله، وروحه، وكلمته»، قالوا هم: لا، ولكنه هو الله نزل من ملكه فدخل في جوف مريم ثم خرج منها، فأرانا قدرته وأمره، فهل رأيت إنساناً قط خلق من غير أب؟ فأنزل الله: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم...} الآية.
وأخرج ابن جرير عن عكرمة في قوله: {إن مثل عيسى...} الآية قال: نزلت في العاقب، والسيد، من أهل نجران.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج قال «بلغنا أن نصارى نجران قدم وفدهم على النبي صلى الله عليه وسلم فيهم السيد، والعاقب، وهما يومئذ سيدا أهل نجران فقالوا: يا محمد فيم تشتم صاحبنا؟ قال: من صاحبكم؟! قالوا: عيسى ابن مريم تزعم أنه عبد. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجل إنه عبدالله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه. فغضبوا وقالوا: إن كنت صادقاً فأرنا عبداً يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه، لكنه الله. فسكت حتى أتاه حبريل فقال: يا محمد {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم...} [ المائدة: 72] الآية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا جبريل إنهم سألوني أن أخبرهم بمثل عيسى. قال جبريل {إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} فلما أصبحوا عادا فقرأ عليهم الآيات».
وأخرج ابن سعد وعبد بن حميد عن الأزرق بن قيس قال: «جاء أسقف نجران، والعاقب، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض عليهما الإسلام فقالا: قد كنا مسلمين قبلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذبتما مع الإسلام منكما ثلاث: قولكما اتخذ الله ولداً، وسجودكما للصليب، وأكلكما لحم الخنزير، قالا: فمن أبو عيسى؟ فلم يدر ما يقول. فأنزل الله: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم} إلى قوله: {بالمفسدين} فلما نزلت هذه الآيات دعاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملاعنه فقالا: إنه ان كان نبياً فلا ينبغي لنا أن نلاعنه، فأبيا فقالا: ما تعرض سوى هذا؟ فقال: الإسلام، أو الجزية، أو الحرب، فأقروا بالجزية».
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة {الحق من ربك فلا تكن من الممترين} يعني فلا تكن في شك من عيسى، إنه كمثل آدم عبدالله ورسوله وكلمته.
وأخرج ابن المنذر عن الشعبي قال: «قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: حدثنا عن عيسى ابن مريم قال: رسول الله، وكلمته ألقاها إلى مريم. قالوا: ينبغي لعيسى أن يكون فوق هذا. فأنزل الله: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم...} الآية. قالوا: ما ينبغي لعيسى أن يكون مثل آدم. فأنزل الله: {فمن حاجَّك فيه من بعد ما جاءك من العلم...} الآية».
وأخرج ابن جرير عن عبدالله بن الحرث بن جزء الزبيدي «أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ليت بيني وبين أهل نجران حجاباً فلا أراهم ولا يروني، من شدة ما كانوا يمارون النبي صلى الله عليه وسلم».
وأخرج البيهقي في الدلائل من طريق سلمة بن عبد يشوع عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه {طس} سليمان. بسم الله إله إبراهيم وإسحق ويعقوب، من محمد رسول الله إلى أسقف نجران وأهل نجران. إن أسلمتم فإني أحمد إليكم الله إله إبراهيم وإسحق ويعقوب. أما بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد، فإن أبيتم فالجزية، وإن أبيتم فقد آذنتكم بالحرب، والسلام. فلما قرأ الأسقف الكتاب فظع به وذعر ذعراً شديداً، فبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له شرحبيل بن وداعة، فدفع إليه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم فقرأه فقال له الأسقف: ما رأيك...؟ فقال شرحبيل: قد علمت ما وعد الله إبراهيم في ذرية إسماعيل من النبوّة، فما يؤمن أن يكون هذا الرجل! ليس لي في النبوّة رأي، لو كان رأي من أمر الدنيا أشرت عليك فيه وجهدت لك.
فبعث الأسقف إلى واحد بعد واحد من أهل نجران، فكلهم قال مثل قول شرحبيل، فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا شرحبيل بن وداعة، وعبدالله بن شرحبيل، وجبار بن فيض، فيأتونهم بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق الوفد حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم وسألوه، فلم تزل به وبهم المسألة حتى قالوا له: ما تقول في عيسى ابن مريم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما عندي فيه شيء يومي هذا فأقيموا حتى أخبركم بما يقال لي في عيسى صبح الغد».
فأنزل الله هذه الآية {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب} إلى قوله: {فنجعل لعنة الله على الكاذبين} فأبوا أن يقروا بذلك.
فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد بعدما أخبرهم الخبر أقبل مشتملاً على الحسن والحسين في خميلة له، وفاطمة تمشي خلف ظهره للملاعنة، وله يومئذ عدة نسوة فقال شرحبيل لصاحبيه: إني أرى أمراً مقبلاً ان كان هذا الرجل نبياً مرسلاً فلاعناه لا يبقي على الأرض منا شعر ولا ظفر إلا هلك فقالا له: ما رأيك؟ فقال: رأيي أن أحكمه فإني أرى رجلاً لا يحكم شططاً أبداً. فقالا له: أنت وذاك. فتلقى شرحبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني قد رأيت خيراً من ملاعنتك قال: وما هو؟ قال: «حكمك اليوم إلى الليل، وليلتك إلى الصباح، فمهما حكمت فينا فهو جائز. فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يلاعنهم وصالحهم على الجزية».
وأخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبو نعيم في الدلائل عن حذيفة «أن العاقب، والسيد، أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد أن يلاعنهما فقال أحدهما لصاحبه: لا تلاعنه فوالله لئن كان نبياً فلاعننا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا فقالوا له: نعطيك ما سألت فابعث معنا رجلاً أميناً فقال: قم يا أبا عبيدة. فلما وقف قال: هذا أمين هذه الأمة».
وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن جابر قال «قدم على النبي صلى الله عليه وسلم العاقب، والسيد، فدعاهما إلى الإِسلام فقالا: أسلمنا يا محمد قال: كذبتما إن شئتما أخبرتكما بما يمنعكما من الإِسلام. قالا: فهات. قال: حب الصليب، وشرب الخمر، وأكل لحم الخنزير، قال جابر: فدعاهما إلى الملاعنة، فوعداه إلى الغد، فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ بيد علي، وفاطمة، والحسن، والحسين، ثم أرسل إليهما فأبيا أن يجيباه، وأقرا له، فقال: والذي بعثني بالحق لو فعلا لأمطر الوادي عليهما ناراً. قال جابر: فيهم نزلت {تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم...} الآية. قال جابر: أنفسنا وأنفسكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي، وأبناءنا الحسن والحسين، ونساءنا فاطمة».
وأخرج الحاكم وصححه عن جابر «أن وفد نجران أتوا النبي فقالوا: ما تقول في عيسى؟ فقال: هو روح الله، وكلمته، وعبد الله، ورسوله، قالوا له: هل لك أن نلاعنك أنه ليس كذلك؟ قال: وذاك أحب إليكم؟ قالوا: نعم. قال: فإذا شئتم. فجاء وجمع ولده الحسن والحسين، فقال رئيسهم: لا تلاعنوا هذا الرجل فوالله لئن لاعنتموه ليخسفن بأحد الفريقين فجاؤوا فقالوا: يا أبا القاسم إنما أراد أن يلاعنك سفهاؤنا، وإنا نحب أن تعفينا. قال قد أعفيتكم ثم قال: إن العذاب قد أظل نجران».
وأخرج أبو نعيم في الدلائل من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن وفد نجران من النصارى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم. منهم السيد وهو الكبير، والعاقب وهو الذي يكون بعده، وصاحب رأيهم، فقال رسول الله لهما: أسلما قالا: أسلمنا. قال: ما أسلمتما. قالا: بلى. قد أسلمنا قبلك. قال: كذبتما يمنعكم من الإسلام ثلاث فيكما. عبادتكما الصليب، وأكلكما الخنزير، وزعمكما أن لله ولداً. ونزل {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب...} الآية. فلما قرأها عليهم قالوا: ما نعرف ما تقول. ونزل {فمن حاجَّك فيه من بعد ما جاءك من العلم} يقول: من جادلك في أمر عيسى من بعد ما جاءك من العلم من القرآن {فقل تعالوا} إلى قوله: {ثم نبتهل} يقول: نجتهد في الدعاء أن الذي جاء به محمد هو الحق، وإن الذي يقولون هو الباطل فقال لهم: إن الله قد أمرني إن لم تقبلوا هذا أن أباهلكم فقالوا: يا أبا القاسم بل نرجع فننظر في أمرنا ثم نأتيك. فخلا بعضهم ببعض وتصادقوا فيما بينهم قال السيد للعاقب: قد والله علمتم أن الرجل نبي مرسل، ولئن لاعنتموه إنه ليستأصلكم، وما لاعن قوم قط نبياً فبقي كبيرهم، ولا نبت صغيرهم. فإن أنتم لم تتعوه وأبيتم إلا إلف دينكم فوادعوه وارجعوا إلى بلادكم. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ومعه علي، والحسن، والحسين، وفاطمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أنا دعوت فأمنوا أنتم. فأبوا أن يلاعنوه وصالحوه على الجزية».
وأخرج أبو نعيم في الدلائل من طريق عطاء والضحاك عن ابن عباس «أن ثمانية من أساقف العرب من أهل نجران قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم العاقب، والسيد، فأنزل الله: {قل تعالوا ندع أبناءنا} إلى قوله: {ثم نبتهل} يريد ندع الله باللعنة على الكاذب. فقالوا: أخرنا ثلاثة أيام، فذهبوا إلى بني قريظة، والنضير، وبني قينقاع، فاستشارهم. فاشاروا عليهم أن يصالحوه ولا يلاعنوه، وهو النبي الذي نجده في التوراة. فصالحوا النبي صلى الله عليه وسلم على ألف حلة في صفر، وألف في رجب ودراهم».
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو نعيم في الدلائل عن قتادة {فمن حاجَّك فيه} في عيسى {فقل تعالوا ندع أبناءنا....} الآية «فدعا النبي صلى الله عليه وسلم لذلك وفد نجران، وهم الذين حاجوه في عيسى فنكصوا وأبوا. وذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن كان العذاب لقد نزل على أهل نجران، ولو فعلوا لاستؤصلوا عن وجه الأرض».
وأخرج ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وأبو نعيم عن الشعبي قال: «كان أهل نجران أعظم قوم من النصارى قولاً في عيسى ابن مريم، فكانوا يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم فيه. فأنزل الله هذه الآيات في سورة آل عمران {إن مثل عيسى عند الله} إلى قوله: {فنجعل لعنة الله على الكاذبين} فأمر بملاعنتهم، فواعدوه لغد، فغدا النبي صلى الله عليه وسلم ومعه الحسن، والحسين، وفاطمة، فأبوا أن يلاعنوه وصالحوه على الجزية فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد أتاني البشير بهلكة أهل نجران حتى الطير على الشجر لو تموا على الملاعنة».
وأخرج عبد الرزاق والبخاري والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال: «لو باهل أهل نجران رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون أهلاً ولا مالاً».
وأخرج مسلم والترمذي وابن المنذر والحاكم والبيهقي في سننه عن سعد بن أبي وقاص قال: «لما نزلت هذه الآية {فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً، وفاطمة، وحسناً، وحسيناً، فقال:اللهم هؤلاء أهلي».
وأخرج ابن جرير عن غلباء بن أحمر اليشكري قال: «لما نزلت هذه الآية {فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم...} الآية. أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي، وفاطمة، وابنيهما الحسن، والحسين، ودعا اليهود ليلاعنهم فقال شاب من اليهود: ويحكم أليس عهدكم بالأمس إخوانكم الذين مسخوا قردة وخنازير؟ لا تلاعنوا. فانتهوا».
وأخرج ابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه في هذه الآية {تعالوا ندع أبناءنا...} الآية. قال: فجاء بأبي بكر وولده، وبعمر وولده، وبعثمان وولده، وبعلي وولده.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق ابن جريج عن عباس {ثم نبتهل} نجتهد.
وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هذا الإخلاص يشير بأصبعه التي تلي الإبهام، وهذا الدعاء فرفع يديه حذو منكبيه، وهذا الابتهال فرفع يديه مداً».
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس {إن هذا لهو القصص الحق} يقول: إن هذا الذي قلنا في عيسى هو الحق.
وأخرج عبد بن حميد عن قيس بن سعد قال: كان بين ابن عباس وبين آخر شيء فقرأ هذه الآية {تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل} فرفع يديه واستقبل الركن {فنجعل لعنة الله على الكاذبين}.